فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}.
قوله: {أَن تَقُومُواْ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنها مجرورةُ المحلِّ بدلًا مِنْ {واحدة} على سبيلِ البيان. قاله الفارسيُّ. الثاني: أنها عطفُ بيانٍ ل {واحدة} قاله الزمخشريُّ. وهو مردودٌ لتخالُفِهِما تعريفًا وتنكيرًا. وقد تقدَّم هذا عند قولِه: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97]. الثالث: أنها منصوبةٌ بإضمارِ أعني. الرابع: أنها مرفوعةٌ على خبر ابتداء مضمرٍ أي: هي أَنْ تقومُوا. ومَثْنى وفُرادى: حال. ومضى تحقيقُ القولِ في {مَثْنى} وبابِه في سورة النساء، وتقدَّم القولُ في {فُرادى} في سورةِ الأنعام.
قوله: {ثم تتفَكَّروا} عَطْفٌ على {أَنْ تَقُوموا} أي: قيامِكم ثم تَفَكُّرِكم.
والوقفُ عند أبي حاتم على هذه الآية، ثم يَبْتَدِئُ {ما بصاحبِكم}. وفي ما هذه قولان، أحدُهما: أنها نافيةٌ. والثاني: أنها استفهاميةٌ، لكن لا يُراد به حقيقةُ الاستفهامِ، فيعودُ إلى النفي. وإذا كانت نافيةً فهل هي مَعَلِّقَةٌ، أو مستأنفةٌ، أو جوابُ القسمِ الذي تضمَّنه معنى {تَتَفَكَّروا} لأنه فعلُ تحقيقٍ كتبيَّن وبابِه؟ ثلاثةُ أوجه. نقل الثالثَ ابنُ عطية، وربما نَسَبه لسيبويه. وإذا كانَتْ استفهاميةً جاز فيها الوجهان الأوَّلان، دونَ الثالث. و {مِنْ جِنَّةٍ} يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلًا بالجارِّ لاعتمادِه، وأَنْ يكونَ مبتدًا. ويجوز في ما إذا كانَتْ نافيةً أَنْ تكونَ الحجازيَّةَ، أو التميميَّةَ.
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)}.
قوله: {مَا سَأَلْتُكُم} في ما وجهان، أحدُهما: أنَّها شرطيةٌ فتكونُ مفعولًا مقدمًا، و {فهو لكم} جوابُها. الثاني: أنها موصولَةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، والعائدُ محذوفٌ أي: سَأَلْتُكموه. والخبر {فهو لكم}. ودخَلَتِ الفاء لِشَبَهِ الموصولِ بالشرط. والمعنى يحتمل أنَّه لم يَسْأَلْهم أجرًا البتةَ، كقولك: إنْ أَعْطَيْتَني شيئًا فَخُذْه مع عِلْمِك أنه لم يُعْطِك شيئًا. ويُؤَيِّدُه {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} ويُحْتمل أنه سألهم شيئًا نَفْعُه عائدٌ عليهم، وهو المرادُ بقوله: {إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23].
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)}.
قوله: {يَقْذِفُ بالحق} يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولُه محذوفًا؛ لأنَّ القَذْفَ في الأصلِ الرَّمْيُ. وعَبَّر به هنا عن الإِلقاء أي: يُلْقي الوحيَ إلى أنبيائِه بالحقِّ. أي: بسبب الحق، أو مُلْتَبِسًا بالحقِّ. ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: يَقْذِفُ الباطِلَ بالحقِّ أي: يَدْفَعُه ويَطْرَحُه به، كقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} [الأنبياء: 18]. ويجوزُ أَنْ تكونَ الباء زائدةً، أي: يُلقي الحقَّ كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195]، أو يُضَمَّنُ {يقْذِفُ} معنى يَقْضي ويَحْكُمُ.
قوله: {عَلاَّمُ الغيوبِ} العامَّةُ على رفعه. وفيه أوجهٌ، أظهرُها: أنه خبرٌ ثانٍ ل إنَّ، أو خبرُ مبتدأ مُضْمرٍ، أو بدلٌ من الضمير في {يَقْذِفُ} أو نعتٌ له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيز نعتَ الضميرِ الغائبِ، وقد صَرَّح به هنا. وقال الزمخشريُّ: رَفْعٌ على محلِّ إنَّ واسمِها، أو على المستكنِّ في {يَقْذِفُ}. قلتُ: يعني بقولِه: محمولٌ على مَحَلِّ إنَّ واسمِها يعني به النعتَ، إلاَّ أنَّ ذلك ليس مذهبَ البصريين، لم يَعْتبروا المحلَّ إلاَّ في العطفِ بالحرف بشروطٍ عند بعضِهم. ويريدُ بالحَمْل على الضمير في {يَقْذِفُ} أنَّه بدلٌ منه، لاَ أنه نعتٌ له؛ لأنَّ ذلك انفرد به الكسائيُّ. وزيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتًا لاسم إنَّ أو بدلًا منه على قلةِ الإِبدالِ بالمشتق أو منصوبٌ على المدح.
وقرئ {الغيوبِ} بالحركاتِ الثلاثِ في الغين. فالكسرُ والضمُّ تقدَّما في {بيوت} وبابِه، وأمَّا الفتحُ فصيغةُ مبالغةٍ كالشَّكور والصَّبور، وهو الشيءُ الغائبُ الخفيُّ جدًا.
{قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}.
قوله: {وَمَا يُبْدِئُ} يجوز في ما أَنْ يكونَ نفيًا، وأَنْ يكونَ استفهامًا، ولكنْ يئول معناه إلى النفي، ولا مفعولَ ل {يُبْدِئُ} ولا ل {يُعِيْد} إذ المرادُ: لا يُوْقِع هذين الفعلَيْن، كقوله:
أَقْفَرَ مِنْ أهلِه عبيدُ ** أصبحَ لا يُبْدِيْ ولا يُعيدُ

وقيل: مفعولُه محذوفٌ أي: ما يُبْدِئُ لأهلِه خيرًا ولا يُعيدُه، وهو تقديرُ الحسنِ.
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}.
قوله: {إِن ضَلَلْتُ} العامَّةُ على فتحِ لامه في الماضي وكسرِها في المضارع، ولكنْ يُنْقَلُ إلى الساكنِ قبلها، والحسن وابنُ وثَّاب بالعكس، وهي لغةُ تميمٍ، وتقدَّم ذلك.
قوله: {فبما يُوْحِي} يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي: بسببِ إيحاء ربي إليَّ، وأَنْ تكونَ موصولةً أي: بسبب الذي يُوْحِيه، فعائدُه محذوفٌ.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)}.
قوله: {فَلاَ فَوْتَ} العامَّةُ على بنائِه على الفتح، و {أُخِذُوا} فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول معطوفًا على {فَزِعُوا} وقيل: على معنى فلا فَوْتَ أي: فلم يَفُوْتُوا وأُخِذوا.
وقرأ عبد الرحمن مَوْلى بني هاشم وطلحة {فلا فَوْتٌ} و {أَخْذٌ} مرفوعين منوَّنَيْنِ، وأُبَيٌّ بفتح {فَوْت} ورَفْع {أَخْذ}. فرَفْعُ {فَوْت} على الابتداء أو على اسمِ لا اللَّيْسِيَّةِ. ومَنْ رَفَعَ {وأَخْذٌ} رَفَعَه بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ أي: وأَخْذٌ هناك، أو على خبر ابتداء مضمرٍ أي: وحالُهم أَخْذٌ، ويكونُ مِنْ عَطْفِ الجملِ، عَطَفَ مثبتةً على منفيةٍ.
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}.
والضميرُ في {آمنَّا به} لله تعالى، أو للرسول، أو للقرآن، أو للعذاب، أو للبعث.
قوله: {التَّناوُشُ} مبتدأ، و {أنَّى} خبرُه أي: كيف لهم التناوشُ. و {لهم} حالٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ {لهم} رافعًا للتناوش لاعتمادِه على الاستفهامِ، تقديرُه: كيف استقرَّ لهم التناوش؟ وفيه بُعْدٌ. والتناؤش مهموزٌ في قراءة الأخوَيْن وأبي عمرو وأبي بكر، وبالواوِ في قراءةِ غيرِهم، فيُحتمل أن تكونا مادتين مستقلَّتين مع اتِّحاد معناهما. وقيل: الهمزةُ عن الواو لانضمامِها كوُجوه وأُجُوه، ووُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ. وإليه ذهب جماعةٌ كثيرةٌ كالزَّجَّاج والزمخشري وابن عطية والحوفي وأبي البقاء. قال الزجَّاج: كلُّ واوٍ مضمومةٍ ضمةً لازمةً فأنت فيها بالخِيار وتابعه الباقون قريبًا مِنْ عبارِته. ورَدَّ الشيخ هذا الإِطلاقَ وقَيَّده: بأنَّه لابد أَنْ تكونَ الواوُ غيرَ مُدْغَمٍ فيها تحرُّزًا من التعَوُّذ، وأَنْ تكونَ غيرَ مُصَحَّحةٍ في الفعلِ، فإنها متى صَحَّت في الفعل لم تُبْدَلْ همزةً نحو: تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكًا، وتعاوَنَ تعاوُنًا. وبهذا القيدِ الأخير يَبْطُلُ قولُهم؛ لأنها صَحَّتْ في تَنَاوَشَ يتناوَشُ، ومتى سُلِّم له هذان القيدان أو الأخِيرُ منهما ثَبَتَ رَدُّه.
والتناوُش: الرُّجوع. وأُنْشِدَ:
تَمَنَّى أَنْ تَئُوْبَ إليَّ مَيٌّ ** وليس إلى تناوُشِها سبيلُ

أي: إلى رجوعِها. وقيل: هو التناوُل يقال: ناشَ كذا أي: تناولَه. ومنه: تناوَشَ القوم بالسِّلاح كقوله:
ظَلَّتْ سُيوفُ بني أَبيه تَنُوْشُه ** للهِ أرحام هناك تُشَقَّقُ

وقال آخر:
فَهْيَ تَنُوْشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلا ** نَوْشًا به تَقْطَعُ أجوازَ الفَلا

وفَرَّق بعضُهم بين المهموزِ وغيرِه، فجعله بالهمزِ بمعنى التأخُّر. قال الفراء: مِنْ نَأَشْتُ أي: تَأخَّرْتُ. وأنشد:
تَمَنَّى نَئِيْشًا أَنْ يكونُ مُطاعِنًا ** وقد حَدَثَتْ بعد الأمورِ أمورُ

وقال آخر:
قَعَدْتَ زمانًا عن طِلابك للعُلا ** وجِئْتَ نَئيشًا بعد ما فاتَكَ الخبرُ

وقال الفراء: أيضًا هما متقاربان. يعني الهمزَ وتَرْكَه مثل: ذِمْتُ الرجلَ، وذَأََمْتُه أي: عِبْتُه وانتاش انتِياشًا كَتَناوَشَ تناوُشًا. قال:
باتَتْ تَنُوْشُ العَنَقَ انْتِياشًا

وهذا مصدرٌ على غيرِ الصدرِ. و {مِنْ مكانٍ} متعلِّقٌ بالتَّناوش.
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)}.
قوله: {وَقَدْ كَفَرُواْ} جملةٌ حالية، و {مِنْ قبلُ} أي من قبل زوال العذاب. ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً. والأولُ أظهرُ.
قوله: {ويَقْذِفُون} يجوز فيها الاستئناف، والحال. وفيه بُعْدٌ عكسَ الأولِ لدخول الواو على مضارعٍ مثبتٍ. والضمير في {به} كما تقدَّم فيه بعد {آمنَّا}. وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو و {يُقْذَفون} مبنيًا للمفعول أي: يُرْجمون بما يَسُوْءُهم مِنْ جَرَّاء أعمالِهم من حيث لا يَحْتسبون.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}.
قوله: {وَحِيلَ} قد تقدَّمَ فيه الإِشمامُ والكسر أولَ البقرة والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ أي: وحِيْلَ هو أي الحَوْلُ. ولا تُقَدِّره مصدرًا مؤكَّدًا بل مختصًا حتى يَصِحَّ قيامُه. وجَعَلَ الحوفيُّ القائمَ مقامَ الفاعلِ {بينهم} واعْتُرِض عليه: بأنه كان ينبغي أن يُرْفَعَ. وأُجيب عنه بأنَّه إنما بُني على الفتح لإِضافتِه إلى غير متمكنٍ. ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يُبْنى المضافُ إلى غيرِ متمكنٍ مطلقًا، فلا يجوز: قام غلامَك ولا مررتُ بغلامَك بالفتح. قلت وقد تقدَّم في قولِه: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] ما يُغْنِيْنا عن إعادتِه هنا. ثم قال الشيخ: وما يقولُ قائلُ ذلك في قولِ الشاعر:
وقد حِيْلَ بين العَيْرِ والنَّزَوانِ

فإنه نصب بين مضافةً إلى مُعْربٍ. وخُرِّجَ أيضًا على ذلك قولُ الآخر:
وقالَتْ متى يُبْخَلُ عليك ويُعْتَلَلْ ** يَسُؤْكَ وإن يُكشَفْ غرامُك تَدْرَبِ

أي: يُعْتَلَلْ هو أي الاعتلال.
قوله: {مِنْ قبلُ} متعلِّقٌ ب {فُعِل} أو {بأشياعهم} أي: الذين شايَعوهم قبلَ ذلك الحينِ.
قوله: {مُريب} قد تقدَّم أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ أراب أي: أتى بالرَّيْب، أو دخل فيه، وأَرَبْتُه أي: أوقعتَه في الرِّيْبَة. ونسبةُ الإِرابةِ إلى الشكِّ مجازٌ. وقال الزمخشري هنا: إلاَّ أنَّ هاهنا فُرَيْقًا: وهو أنَّ المُريبَ من المتعدِّي منقولٌ مِمَّن يَصِحُّ أَنْ يكونَ مُريبًا، من الأعيان، إلى المعنى، ومن اللازمِ منقولٌ من صاحبِ الشكِّ إلى الشَّكِّ، كما تقول: شعرٌ شاعرٌ وهي عبارةٌ حسنةٌ مفيدةٌ. وأين هذا مِنْ قولِ بعضِهم: ويجوز أَنْ يكونَ أَرْدَفَه على الشَّكِّ، ليتناسَقَ آخرُ الآية بالتي قبلَها مِنْ مكانٍ قريبٍ. وقولُ ابنِ عطية: المُريبُ أَقْوى ما يكون من الشكِّ وأشدِّه. وقد تقدَّم تحقيقُ الرَّيْب أولَ البقرةِ وتشنيعُ الراغب على مَنْ يُفَسِّره بالشَّك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}.
إنْ كنتُ مهتديًا فبربِّي لا بجهدي. وإنْ كن عندكم من أهل الضلال فوبالُ ضلالتي عائدٌ عليَّ، ولن يضرِّكم ذلك. فانظروا أنتم إلى أنفسكم... أين وقعتم؟ وأي ضرر يعود عليكم لو أطعتموني؟ لا في الحال تخسرون، ولا في أنفسكم تتعبون، ولا في جاهكم تنقصون.
وما أخبركم به نَقْصِ أصنامكم فبالضرورة أنتم تعلمون! فما لكم لا تُبْصِرون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)} أي لو رأيتَ ذلك لرأيتَ فظيعًا، وأَمرًا عظيمًا؛ إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاستئصال.
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}.
إذا تابوا- وقد أُغْلقَتْ الأبواب، وندمُوا- وقد تقطَّعَت الأسباب... فليس إلا الحسرات والندم، ولات حين ندامة!
كذلك من استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه يُتَجَاوَزُ عنه مرةً، ويَعْفَى عنه كَرَّةً، فإذا استمكنت منه القسوةُ وتَجَاوَزَ سوءُ الأدبِ حَدَّ الغفلة، وزاد على مقدار الكثرة... يحصل له من الحقِّ رَدٌ، ويستقبله حجاب، وبعد ذلك لا يُسْمَعُ له دعاء، ولا يُرْحَمُ له بكاء، كم قيل:
فَخَلِّ سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا ** فليس لأيام الصفاء رجوعُ

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}.
التوبة يشتهونها في آخرالأمر وقد فات الوقت، والخَصْمُ يريد إرضاءه فيستحيي أن يذكر في ذلك الوقت، وينسدُّ لسانه ويعتقل؛ فلا يمكنه أَن يُفْصِح بما في قلبه، ويودُّ أَنْ لو كان بينه وبين ما أسلفه بُعْدٌ بعيد، ويتمنى أن يُطِيعَ فلا تساعده القوةُ، ويتمنى أن يكون له- قبل خروجه من الدنيا- نَفَسٌ... ثم لا يتفق. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {مثقال ذرة في السموات} القلوب {ولا في الأرض} النفوس من سعادة أو شقاوة {قالوا الحق} يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق {قل من يرزقكم} من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية.
{ألحقتم به شركاء} من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين في عالم الأجساد وهو ظاهر، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالًا عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار.
فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة، والتوحيد والمعرفة ثمرتها، والشريعة كالماء والبشير والنذير كالآكار. وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم. يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به. ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتًا معلومًا لا تتجاوزه {أكثرهم بهم مؤمنون} اي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون {ويقذفون بالغيب} فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو اسير في أيدي صفات النفس {وحيل بينهم} لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلًا ياجبال جِبَالٍ أَوّبِى مَعَهُ والطير} أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سري في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكرًا فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك.
{وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [الإسراء: 44] {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} [سبأ: 0 1] القلب {أَنِ اعمل سابغات} وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب على اللسان {وَقَدّرْ في السرد} [سبأ: 11] أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك، وقد ورد «كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم».
ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس {ولسليمان الريح} ريح العناية {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ} [سبأ: 12] إشارة إلى قوة باطنه حيث انقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 3 1] وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ: 14] فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علمًا {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي مقامات أهل الباطن من العارفين {قُرًى ظاهرة} وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ} في ليالي البشرية {فِى مَا} في أيام الروحانية {ءامِنِينَ} [سبأ: 18] في خفارة الشريعة.
وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية: القرى المبارك فيها الأئمة رضي الله تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بميلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء استعدادهم {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23] فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم {وَمَا أرسلناك} أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود {إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} الأولين والآخرين {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وهذا حاله عليه الصلاة والسلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 8 2] إذ لا نور لهم يهتدون به {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤكُمْ} [سبأ: 3 4] هؤلاء قطاع الطريق على عباد الله تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء الله تعالى الذين ينفرون الناس عن الاعتقاد بهم واتباعهم {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} إن النفس لأمارة بالسوء {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إلى رَبّى} [سبأ: 0 5] من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الاهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشىء من تفاوت صفاء الباطن وطهارته، وقد ورد أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه لا بتطهير باطنه كما يرمز إليه قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 9 7] نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهره وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون. اهـ.